الكون ليس أغرب مِما نعتقد فحسب، بل هو أغرب مما يمكننا أن نعتقده .. فيرنر هايزنبيرغ
لا شيء أكبر وأغرب من الكون! فالكون يبدو لا نهائياً، غير معلوم الهيئة، ولا توجد له حدود حقيقية، ولا يمكن معرفة موقع نقطة بدايته، ولا نقطة نهايته. فنحن نعيش في هذا العالم الصغير على كوكب الأرض داخل ما يشبه «شرنقة» كونية غير معلومة الهيئة داخلها وخارجها، لكننا وخلال فترات متلاحقة استطعنا أن نتعرف على بعض الأجزاء الصغيرة جداً داخلها، والتي تعتبر نقطة -أو أقل من ذلك- في بحر هذا الكون الفسيح.
بعض هذه الأجزاء موجودة في هيئاتٍ تُشكّلها النجوم، والانفجارات الكونية، وحبّات الغبار الكوني المُتراكمة، والمجرّات، وغيرها من الأسرار الكونية التي لم تكتشف بعد، فمادة الكون نفسه غير معلومة التركيب.
لكن يظل سحر الكون يأخذنا لأبعد من ذلك، وأبعد من عد النجوم ليلاً، أو مراقبة بعض الكواكب التي تظهر في فجر أيام محددة، يأخذنا هذا السحر للمكونات المذهلة للكون التي تتشكل فيه دائماً وباستمرار من النجوم فحسب ، ستكون هذه السلسلة مكرسة لشرح مكونات الكون الهائلة وهي كالتالي ( تستطيع الضغط على أسم كل منها للأنتقال لموضوعها ) :
ملاحظة: ستكون الروابط مفعلة وجاهزة فور نزول مواضيع السلسلة تباعاً.
- الشبكة الكونية The Cosmic Web ( وهي ما سنشرحه في هذا الموضوع )
- جدار هيركوليس - كورونا الشمالي العظيم The Hercules – Corona Borealis Great Wall
- انفجارات أشعة جاما الدائرية – GRB
- مجموعة الكوازارات الهائلة في الكون – The Huge-LQG
- عناقيد المجرات الداخلية – Laniakea Supercluster
- الجدار العظيم في الكون –CfA2 Great Wall
- عناقيد المجرات أو تركيزات شابلي – The Shapely Supercluster
- الفقاعات الكونية حديثة الاكتشاف – The Newfound Blob
- الفراغ الكبير في الكون – The Supervoid
وسط ذلك الترتيب المتقن للكون من حولنا ، لا يمكن أن تكون المجرات الأخرى موزعة بشكل عشوائي ، فقد أكد العلماء أنها عملية منظمة تمامًا ، تم تحديدها على بعد 12 مليار سنة ضوئية من الأرض ، فقد استطاعت الجاذبية أن تضم الكون في شبكة كونية عملاقة ، عبارة عن بنية واسعة تشكلت من خيوط غازية خافتة الوهج تربط المجرات البعيدة ببعضها .
ما هي الشبكة الكونية
كشفت الملاحظات القديمة عن مجموعة من المجرات الموجودة في كوكب الدلو على بعد 12 مليار سنة ضوئية ، وهي مجموعة تتكون من مئات إلى آلاف المجرات وتعد أكبر الهياكل التي تجمعها الجاذبية في الكون ، متصلة ببعضها البعض عن طريق خيوط غاز خافتة ، فقد كان ذلك الكشف هو العبور الأول نحو تفسير كيفية تشكل الكون بعد الانفجار الأعظم ، ثم حديثًا تم الكشف من خلال أجهزة مصممة لالتقاط أضعف الهياكل الموجودة ، حيث قال عالم الفيزياء الفلكية في جامعة دورهام البروفيسور ميشيل فوماغالي: ” من المثير أن نرى بوضوح للمرة الأولى خيوط متعددة وممتدة في بداية الكون ، أخيرًا نحن نمتلك طريقة لدراسة هذه الهياكل بشكل مباشر وفهم دورها بشكل مفصل في تنظيم الثقوب السوداء والمجرات الهائلة ” .
ومن خلال كشف المحاكاة الحاسوبية ظهر هذا الهيكل لأول مرة منذ عقود بهذا الشكل الواضح لرؤية الضوء والمجرات لكن الغاز الخافت الذي يربط بينهما ظل صعب الالتقاط بشكل مصور . [1]
وقد كان آخر ما تم التقاطه للشبكة الكونية عندما كان عمر الكون لا يتعدى الـ 2 مليار عامًا ، هو ليس تصويرًا واضحًا بما يكفي لكنه الأفضل فيما نملك . [1]
ضوء الشبكة الكونية
اكتشف العلماء الشبكة الكونية بشكل غير مباشر ، حيث عندما تنظر إلى الشبكة الكونية يظهر نورًا لامعًا على مسافة الطريق بين المجرات بالتدقيق فيه أكثر يظهر كغابة من الخطوط المتداخلة ، تلك الخطوط امتصت الهيدروجين من جميع الشعيرات التي صادفتها ، ولكن ليس هناك الكثير منها ولكن ذلك الغاز الرابط بين المجرات موجودًا لكنه لا ينبعث منه الضوء بشكل كبير . [2]
فمن الممكن أن يكون الغاز مضيئًا بواسطة الضوء المنبعث من المجرة نفسها ، حيث تنفجر تلك المجرات مع النجوم حديثة الولادة أو تحتوي على ثقبًا أسودًا مملوءًا بالغاز ، والذي يؤدي إلى انتشار غاز الهيدروجين المشع على جوانب المجرة .
وتم الكشف عن أن المجرة UM 287 تعمل كمصباح كهربائي فلكي ، حيث تكون قادرة على إضاءة خيوط طولها 1.5 مليون سنة ضوئية . [2]
كشافات كونية
رصد فريق أومهاتا مجموعة من الكشافات الكونية عن طريق مستكشف الطيف متعدد الوحدات ” MUSE ” ووضعوه على تليكسوب هائل الحجم تابع للمرصد الجنوبي الأوروبي في تشيلي ، حيث تم التركيز على مجرات بعيدة يطلق عليها اسم ” SSA22 ” والتي لكي يصل ضوئها إلى الأرض يستغرق 12 مليار سنة ضوئية ، هذه المجرات تقوم بإضاءة الغاز الموجود بين المجرات وذلك هو سر توهجه . [2]
وعن طريق ” MUSE ” أيضًا تم اكتشاف بقع مضيئة في غاز الهيدروجين الموجود بين المجرات والذي يربط بينها ، وأيضًا على المناطق الخافتة التي تربط بين المجرات . [2]
يؤكد علماء الفلك أن هذه المنطقة الواقعة بين المجرات أو ما تسمى الشبكة الكونية تحتوي على غاز تقدر قيمته بـ تريليون صنز ، ولكن هذا الغاز لا يظل ثابتًا بل هو متحرك لذا من الممكن أن يتدفق إلى المجرات مما يساعد على تكوين النجوم أو يزيد من نشاط الثقوب السوداء . [2]
ولعل من أغرب ما لدينا أن تلك الراصدات الكونية التي نملكها لا يمكنها إلا رصد الكون البعيد أو المجرات البعيدة ، حيث يمتد الضوء في أطوال الموجات فوق البنفسجية إلى أطوال موجبة تسهل رؤيتها ، وحتى الأشعة تحت الحمراء خلال مرورها في الكون الفسيح ، ولكن لكي نراقب الكون القريب يجب أن نستطيع الوصول إلى أطوال موجات فوق البنفسجية وتلك هي التي يقوم بحجبها الغلاف الجوي للأرض . [2]
ويقول إريكا هامدن من جامعة أريزونا: ” إن استكشاف التاريخ الكوني الكامل عن طريق انبعاثات الغاز يتوجب وجود قمر صناعي للأشعة فوق البنفسجية تساعد على الرؤية ، أي أن الأمر يستدعي إدخال تلسكوب كبير للأشعة فوق البنفسجية إلى الفضاء وذلك يمثل تحديًا لأسباب لوجستية ومالية ” . [2]
الشبكة الكونية ونمو المجرات
أكدت الدراسات التي أجريت حديثًا أن الغازات المتوجهة التي تحيط بالمجرات وتربط بينها ، تساعد في تغذية نمو المجرات ذات الحجم الصغير ، وهذا ما يفسر كيف يتطور الكون مع مرور الوقت ، حيث أشارت الأبحاث السابقة إلى بعد ولادة الكون في الانفجار الأعظم من 13.8 مليار سنة ، انهار جزء كبير جدًا من الهيدروجين ذلك الغاز الذي يشكل غالبية المادة الموجودة في الكون لتتشكل في هيئة صفائح عملاقة ، ثم انفصلت تلك الصفائح مكونة خيوط شبكة كونية هائلة .
وتصورت المحاكاة الحاسوبية أن حوالي 60% من الهيدروجين الذي نتج عن الانفجار الأعظم موجود في هذه الخيوط الشاسعة ، ولمن ظلت كلها مجرد نظريات بعيدة المنال عن التأكيد نظرًا لصعوبة الوصول لهذه الغازات الموجودة في تلك الخيوط أو الشعيرات .
وقال البروفسير وعالم الفلك أومهاتا: ” لم أتوقع أن أرى هذه الخيوط عبر شبكة الإنترنت ، ظننت أنها أضعف بكثير من إمكانية رؤيتها ” . [3]
إكتشافات حديثة:
كشفت خارطة جديدة -توصّل إليها فريق دولي من الفلكيين من الولايات المتحدة والصين وكوريا الجنوبية- عن شكل الكون في المنطقة المحيطة بمجرتنا درب التبانة، والتي ظهر أن المجرات بها تتخذ شكل خيوط متشابكة معا، تتجمع في نقاط أكثر كثافة.
![]() |
اصطلاح "الشبكة الكونية" يطلق على الشكل التي تتخذه المجرات وما بينها من غاز وغبار (ناسا) |
وبحسب الدراسة، التي نشرت في دورية "ذا أستروفيزيكال جورنال" (The Astrophysical Journal)، وأعلنت عنها جامعة ولاية بنسلفانيا (Pennsylvania State University) المشاركة في الدراسة في بيان صحفي رسمي يوم 24 مايو/أيار من العام الماضي، فإن هذه هي الخارطة الأولى من نوعها في هذا النطاق، حيث عادة ما يحصل العلماء على خرائط للشبكة الكونية في مرحلة مبكرة من عمر الكون، لأنها تكون أقل تعقيدا.
ويطلق اصطلاح "الشبكة الكونية" (Cosmic Web) على الشكل التي تتخذه مجموعات المجرات في الكون، والغاز والغبار الساكن في الفضاء بينها، حيث لا تتوزع بانتظام، وإنما تتخذ هيئة خيوط مترابطة معا وفراغات شبه خالية من المجرات فيما بينها.
في نقط التقاء تلك الخيوط معًا نجد التجمعات المجرية الكثيفة، والتي تحتوي على آلاف المجرات، وفي الخيوط تقل أعداد المجرات بشكل كبير.
![]() |
هذه هي الخارطة الأولى من نوعها في هذا النطاق (يوريك ألرت) |
الإستفادة من الذكاء الاصطناعي في بناء الشبكة الكونية
ولبناء تلك الخارطة، استعان هذا الفريق بالذكاء الاصطناعي، حيث طوّروا خوارزميات تعتمد على تعلم الآلة، وقاموا بتغذيتها بكم هائل من البيانات عن محيطنا الكوني الآن، بالإضافة إلى عدد من أعمال المحاكاة السابقة لأشكال المجرات في الشبكة الكونية.
بعد ذلك، وللتأكد من صحة النموذج الذي بناه الذكاء الاصطناعي، طبق الباحثون نتائجه على تصنيف شهير للمجرات يدعى "كوزميك فلو-3".
وبحسب الدراسة، فإن هذا التصنيف يحتوي على بيانات شاملة حول توزيع وحركة أكثر من 17 ألف مجرة في محيط مجرة درب التبانة، تقع جميعها في حدود 200 ميغا فرسخ فلكي (الفرسخ الفلكي هو وحدة قياس للمسافات، حيث يساوي الفرسخ الواحد 3.26 سنوات ضوئية).
أسرار الكون
ولا شك أن بناء خارطة دقيقة لمحيطنا المجري سيؤدي بالتبعية إلى فهم أدق لطبيعة اللغز الكوني الأشهر إلى الآن والمسمى "المادة المظلمة" (Dark Matter)، والتي تمثل 80% من المادة في الكون كله.
![]() |
بناء خارطة دقيقة لمحيطنا المجري سيؤدي إلى فهم أدق لطبيعة لغز المادة المظلمة (ناسا) |
لا يعرف العلماء شيئًا عن المادة المظلمة، لكنهم يرصدون أثرها الجذبوي الواضح على النجوم في أطراف المجرات وحينما يقيسون كتل تجمعات المجرات الضخمة. ويظن فريق من العلماء أن لها دورا قويا في تشكيل الشبكة الكونية لتكون بتلك الهيئة الخيطية.
ويعتقد الباحثون في هذا الفريق أنه يمكنهم تحسين دقة خارطتهم الجديدة عن طريق إضافة المزيد من المجرات، خاصة حينما تصدر البيانات الجديدة القادمة من التلسكوب الفضائي المزمع إطلاقه قريبا "جيمس ويب" (James Webb)، الأمر الذي سيعطينا فهما أدق لمحيطنا الكوني، وربما يوما ما نفك شفرات المادة المظلمة.
ليست هناك تعليقات
إرسال تعليق
شاركنا بتعليقك ، مع مراعاة :
- أحترام الآداب العامة وأحترام الرأي الآخر
- عدم الأساءة الى أي جهة سواء كانت دينية أو سياسية
- عدم مشاركة الروابط والأعلانات منعاً باتاً